الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
وقد مَرَّ أنَّ أحمدَ رحمه الله تعالى نَظَرَ إلى ظواهرِ الأحاديثِ، وإلاّ فلا معنى لبطلانِ الصلاة إذا لم يَسْتُرْ إحدى منكبيه مع كونِهِ خارجًا عن العورة عِنْدَهُ.
357- قوله: (ثمان ركعات) وعند أبي داود صراحةً أنّه كان يُسَلِّم على ركعتين، قيل إنها كانت صلاة الضّحى، وقيل شكرًا للفتح. والأحاديثُ القوليةُ فيها كثيرةٌ، أما الفعليةُ فقليلةٌ جدًا، أما الوجهُ في قِلَّةِ العملِ مع كثرةِ الترغيب، فراجِعْهُ من «نيل الفرقدين». وقولُهُ صلى الله عليه وسلّم «آمنَّا مَنْ آمنتِ» جرى على العرفِ، أي عَدَمِ نَقْضِ أمانِهَا، وإلاّ فقد حَصَلَ الأمان حين آمَنَتْ.
وهو مذهبُ أحمدَ رحمه الله تعالى، وقد مرَّ الوَجْهُ فيه أنه تأثُّرٌ من ورودِ صِيَغِ الأمر في الالتحافِ والتَّوَشُحِ. واعلم أَنَّ مراتبَ الأمرِ والنهي كلَّها من بابِ الاجتهادِ، ولذا تراهُم يختلفونَ عند ورودِ الأمرِ والنهي، فيَحْمِلُ واحدٌ على الوجوبِ والتحريمِ، والآخرُ على الاستحبابِ والكراهةِ، وبعد كلٍ منهم كأنه عَمِلَ بالحديثِ، فلا يَعْتَرِضُ هناك أحد على أحد، نَعَمْ إذَا تَرَكَ الحديثَ بجميعِ مراتِبِهِ فحينئذٍ يُعْتَرَضُ عليه ويُرْمَى بتركِ الحديثِ، فهذا صريحٌ في أنَّ المراتِبَ عندهُم اجتهادِيَّةٌ، نعم إذا وَرَدَ الحديثُ بالوعيد على التَّارِكِ أو الفاعلِ يَتَعَيَّنُ الوجوبُ أو الحُرْمةُ، ولا يتأتى فيهِ الاستحبابُ.
تنبيهٌ على أن الثوبَ إذا كان ضيقًا لا يتيسرُ فيه الالتحافُ والتوشُّحُ ماذا يفعل؟ ولا توجدُ كثيرٌ من المسائل في الفقه، وتعرَّض إليه الحديث، فمن زَعَمَ أن الدِّين كلَّه في الفقه بحيث لا يبقى وراءه شيءٌ، فقد حاد عن الصواب. 361- قوله: (يحيى بن صالح) وهو حنفي المذهب، ساكن الشام، عديل الإِمام محمد رحمه الله تعالى في سفر الحج، وشيخ البخاري. 361- قوله: (في بعض أسفاره) عيَّنه مسلمٌ أنه غزوةُ بَواط، وهي من أوائل مغازيه صلى الله عليه وسلّم 361- قوله: (لبعض أمري) وفي رواية مسلم: أنه صلى الله عليه وسلّم كان أرسله هو وجبار بن صخر ليُهيئا الماء في المنزل. كذا في «الفتح». 361- قوله: (فاشتملت) وهذا التعبيرُ ناقصٌ، لأنه كان أمسكَ طرفي ثوبه تحت ذقنه، وليس هذا باشتمال. وإنما فعلَهُ لعدم علمه بالمسألة، فإِنَّ الواجب فيه العقد. 361- قوله: (كان ثوبًا) أي كان ثوبًا واحدًا. وفيه أيضًا نقصٌ، لأنه لم يكن فيه دخل لوحدة الثوب، بل لضِيقِهِ، فالأولى أن يقول: كان الثوبُ ضيِّقًا. 362- قوله: (لا ترفعن)... إلخ وليس هذا النهيُ لحصول التعقيب المطلوب عند الشافعية بين الإِمام والمقتدي، بل لأجل مصلحة كما عند أبي داود، وهي أنْ لا يَلْمَحْنَ شيئًا من عورات الرجال. ودل الحديث على مسألة الحنفية: أنه لو أمكن النظرُ إلى عورتِهِ بتعنُّتٍ وتكلفٍ لا تفسد صلاتُهُ.
والظاهرُ أن نظرَه إلى قِطَعِه يعني أن الثوبَ إذا قُطع على طريق غير طريق العرب، جازت الصلاة فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلّم صَلَّى في الجبة الشامية، وليس نظرُهُ إلى مسألة الطهارة والنجاسة كما فَهِمُوه. ثم اعلم أن مسألة الشعار إنما تجري فيما لم يرد فيه النهيُّ من صاحب الشرع خاصة، وما ورد فيه النهيُّ، فإنه يمنع عنه مطلقًا، سواءٌ كان شعارًا لأحدٍ أو لا. أما إذا لم يرد به النهيُّ وكان شعارًا لقوم يُنهى عنه أيضًا، فإِن لم يكُفُّوا عنه حتى حصل فيه الاشتراك أيضًا، واختارَه الصُّلَحَاءُ بكفِّ اللسان عنه. ثم إنه يتبادر من كتب الفتاوى هدرُ الاحتمالات بالكلية، والذي أظن أن الأمرَ ليس بهذا التوسيع. ففي المتون أنهُ يكره سؤرُ الدجاجة المُخَلاة. وفي «فتح القدير» أن الكراهة تنزيهية، فدل على عبرتها شيئًا، فعلى هذا ينبغي أن لا يوسع فيه كل التوسيع. ولا تلغى الاحتمالات بأسرها. وفي «البحر» أن الماء إذا كان في فَلاة من الأرض وكانت حولَهُ آثارُ أقدامِ الوحوش كُرِه، مع أنهم قالوا: إن الماء إذا كان كما وُصف لا يتنجَّسُ، ما لم توجد مشاهدة جُزئية، أو إخبار بوقوع النجاسة، كذلك ثيابُ الكفار التي تُجلب من بلادهم لا يحكم عليها بالنجاسة، ما دام لم يوجد فيها أحد الأمرين. وكذلك قال الفقهاء: إن في الأطعمة والأشربة والألبسة والأدوية يعتبرُ بالاحتمالِ الغالب، ولا معتبرَ بالمرجوح، وقد مر فيه بعض الكلام. قوله: (قال الحسن)... إلخ وهكذا عندنا. وقد مر مني أنه وإن كان فيه توسيعًا في كتب الفتاوى لكن فيه تفصيلٌ في المتون، فينبغي أن يفصَّلَ بالقِلة والكثرة، ويعتبرُ بما يكثُرُ وقوعهُ، ويهدَرُ بما قل وقوعه. قوله: (رأيت الزهري)... إلخ ولعل المراد منه اللُّبس بعد الغَسْل، لأن مذهَبَه نجاسة الأبوالِ كما مر عن «مصنف عبد الرزاق»، ويومىء إليه ما عند البخاري: «هل تشرب أبوال الإِبل»... إلخ. فالاستدلال منه على طهارته عنده في حيِّزِ الخفاء، ورأيت أثرًا في الخارج أن عمر رضي الله عنه أراد أن ينهى عن ثياب اليمن وكانت تصبغ بالبول، فقام أبيُّ وقال: إنك لا تستطيعهُ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم ينه عنه، فسكت عمر رضي الله تعالى عنه.
قال الفقهاء: أول الفرائض الإِيمانُ، ثم ستْرُ العورة، فهو فرضُ عينٍ في الخارج، وشرطٌ لصحة الصلاة. 364- قوله: (فحلَّه)، وفي عُمْره عليه الصَّلاة والسَّلام إذ ذاك اختلاف في السِّير، وينبغي أن يؤخذ بالأقلِ فالأقل منها. وقد علمت سابقًا أن الأشَاعِرَة جَوَّزوا الصغائر قبل البِعثة، ونفاها المَاتُرِيدِيَّة وقالوا بالعصمة قبلها وبعدها. ثم هذا التَّعري كتعري موسى عليه الصَّلاة والسَّلام حين آذاه قومَه. 364- قوله: (فسقط مغشيًا عليه) وهذا يدل على أنه لم يزل بعين الرضا منه، وهو لفظ الأشعري في حق أبي بكر الصديق رحمه الله تعالى. وحاصله: حِفَاظتُهُ عما لا ينبغي من بدءِ الأمر، وإن لم يتوجه إليه الخِطاب بعد.
السراويل كان من قطع الإِيران دون العرب. قوله: (والتبان) (جانيكيا). 365- قوله: (إذا وَسَّع الله فأَوسعوا) رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «أن الْبَسُوا من الثياب عند صلواتكم، ما تحبون أن تكونوا فيها في مجالسكم، فإِن كان يعتادُ في مجالسها بالثيابِ الرفيعة يُستحب له أن يُصليَ فيها. وحاصلهُ: أن يتجَمَّل لقيامه بين يدي ربه كما يتجملُ لحضورهِ في مجالسه. وكان مالك رحمه الله تعالى يهتمُّ بمجالسِ الحديث، ما لا يهتمُّ لغيرها. نُقل أن الشافعي رحمه الله تعالى أراد أن يستفيد منه، فحفظ «الموطأ» في ثلاثة أيام، واستشفع إليه بحاكم مكة شرفها الله، فكتب حاكمُ مكةَ إلى نائبه في المدينة أن يذهبَ معه إلى مالكٍ ويشفعَ له، وقال للشافعي رحمه الله تعالى في الطريق: إني شافعٌ، ولكني لا أدري هل أشفع أم لا؟ فإن مالكًا من أغنى الناس نفسًا، فلما بلغَ إليه وباحَ بحاجته أجازَ له أن يجلسَ في حلقته، وقال: ليس لي فُرصة غير ذلك. ولم يُرخص له الاستفادة في الخارج، فقبِلَه الشافعي رحمه الله تعالى وقعد إليه. فلما كان من الغد قرأ الشافعي رحمه الله تعالى عبارةَ «الموطأ»، فلما قرأهُ عَرَفَ مالكٌ رحمه الله تعالى أنه رجلٌ، فقرأ الثاني والثالث فقال له مالك: ادخل عليَّ متى شئت وسل عما شئت، فأقام الشافعي رحمه الله تعالى عنده مدةً، فلما استرخَصَ منه أعطاه مالكٌ رحمه الله تعالى فرسًا وشَيَّعَه على أرجله- فإنه لم يكن ينتعلُ بالمدينة ولا يركبُ فيها، مخافةَ أن تقعَ قدمُهُ على موضعٍ وقعت قدم النبي صلى الله عليه وسلّم عليها- وودَّعه أحسن توديع. ونقل أيضًا أن مالكًا كان إذا جلس للتحديث جلس في أحسن ثيابه متطيبًا، وقِصصه في ذلك معروفة. وبالجملة ما أحسن بالرجل أن يعبدَ ربَّه في أحسن ثيابه إذا قدر. 365- قوله: (جمع رجل)... إلخ ولم يذكر فيه العِمَامة، وفي فقهنا العمامة أيضًا. 366- قوله: (أسفل من الكعبين) وسأل هشامٌ محمدًا رحمه الله تعالى عن الكعبين، فأجابه: أنه العظم النابت ومَعقِدُ الشِّرَاك، وكان فسَّره في باب الحج ثم نقلَ تفسيره في الوضوء، وهو باطل، وهشامٌ هذا هو الذي نَزَلَ عنده محمد رحمه الله تعالى حين دخل الرَّي.
واعلم أن المصنفَ رحمه الله تعالى كثيرًا ما يستعملُ في تَرَاجِمِهِ «ما» و «مِنْ» كما ترى ههنا. والشارحونَ قد يجعلون «مِنْ» وأخرى تبعيضية، وراجع الفرقَ من الرّضي، فإنها لو كانت بيانيةً لاطَّردَ الحكمُ على جميع مدخُولِهَا وإلا لا. وجعلتها تبعيضيةً في جميع الأبواب لتكونَ شاكلتُهَا في كلها سَوَاء. فإن قلت: كيف يستقيم التبعيضُ في ستر العورة؟ قلت: العورة لغةً: هي ما يُستحى منه، فيستقيم فيها التبعيض أيضًا. ثم اعلم أن العورةَ عندنا من السرة إلى الرُّكبة. وعند مالك رحمه الله تعالى هي أصل الفخذ دون سائرها. وقد مر مني أنه من باب إقامةِ المراتب، وهذا الباب كثيرٌ في الفقه. ففي «الفتح» في باب الجمعة: أن الجمعةَ فريضةٌ وآكدُ من الفرائض الخمس، فأقام المراتبَ بين الفرائض أيضًا، وجعلَ بعضَها آكدُ من بعض. وإنما صرح به الشيخ ابن الهُمَام لمسألة ذكرها في القُدُورِي وهي: من صلى الظهرَ في منزلِهِ يوم الجُمعة قبل صلاةِ الإمام ولا عُذْرَ له كُرِه له ذلك وجازت صلاتُهُ، ويُتوهَّمُ منها عدمُ فرضية الجمعةِ عندنا، فصرَّح بأن الجمعة فرضٌ قطعيٌّ عندنا، بل آكد من سائر الفرائض. وكذلك في «البحر»: أن الفاتحةَ واجبةٌ والسورةَ أيضًا واجبةٌ، إلا أن الفاتحةَ أوجبُ، فهذه نقولٌ تدُل على عِبرة المراتب عندهم، وهذه هي الحقيقةُ التي سرت عليها مسألة ستر العورةِ، والاستقبال، والاستدبارِ، والنواقضِ الخارج من السبيلين وغير السبيلين، ومسِ المرأة، ومس الذكر. (الكلام حول الفخذ، وهل هو عورة؟) وقد مرَّ ذكرُهَا في الأبواب السابقة مُفصلا، فرأسُ الفَخِذِ عورةٌ أيضًا، كما أن أصلها عورةٌ، إلا أنها أخفُّ بالنسبة إلى الأصل، ولذا تجدُ فيها الدلائل في الطرفين، فبعضها يدُل على أنها عورة، وبعضها يدلُ على أنها ليست بعورة، بخلاف أصل الفخذ فإنك لا تجدُ دليلا يُشعر بعدم كونها عورة. وكأني أريدُ أن الاختلافَ في الأدلة قد يكونُ من جهةِ الشارع قصدًا، ولا يكون من الرواة، وهذا حيث يريدُ صاحبُ الشرع بيان المراتب، فإذا لم تكن عنده مراتبُ في جانب الأمرِ أو النهي لم تعط مادةٌ تدلُ بخلافه، وإذا كانت فيه مراتب بعضها أخفُّ من بعض وأرادَ فيها توسيعًا يؤديه بعرْضِ الكلام ولا يأخذه في الخطاب، لأنه لو أخذه في الخطاب فات الغَرَضُ وهو العمل، فإنه إنما يبقى ما دام الإجمال، وإذا جاء التفصيلُ ذهبَ العملُ، ولذا نرى العوام قد يسبقونَ على العلماءِ في العمل، فإنهم لا يفرِّقون بين الفرائض والسنن والنوافل، فيؤدُّونَها على شاكلةٍ واحدةٍ. وأما الذين يعلمون أن النوافلَ في طوعه كلما شاء فعل، وإذا لم يشأ لم يفعل، فإنهم تفترُ هِمَمُهم، وتتقاعدُ عَزَائِمُهُم، فَيُفْقَدُ العمل. فإذا كان حالُ التخفيف في الخطاب ما قد علمتَ، ولم يكن بدٌّ من بيان حقيقة الأمر أيضًا، احتاج إلى التنبيه عليه بنحوٍ من أنحاء الكلام وجوانبه وأطرافه، بدون أخذِهِ في العبارة وطريقهُ أن تَرِدَ الدلائل في الطرفين، فيوجدُ الاختلاف ولا يحصلُ الجزمُ بجانب فيخِفَّ الأمر، وهذا أيضًا نحو بيانٍ إذا لم يَرِد التصريح به. وهذا الذي أراده صاحب «الهداية» حين قَسَّمَ النجاسة إلى الغليظة والخفيفة، حيث قال: إن التخفيفَ إنما يثبت عند أبي حنيفة رضي الله عنه بتعارُضِ النصين، وعند أبي يوسف رضي الله عنه باختلاف الصحابة والتابعين، فنظر أبو حنيفة رضي الله عنه إلى تعارض الأدلة، فجاءت المراتب عنده من حيث قَطْعيَّةِ الدليل وعدمها، ونظر صاحباه إلى التعامل، لأنه شيءٌ فاصل في الباب، بخلاف الأدلة فإنها موارد للاحتمالات. إلا أن صاحب «الهداية» قرر الخِفَّة لتعارض الأدلة. وأقول: إن تعارضَ الأدلة لأجل الخِفة في نظر الشارع. فأدَّاها بهذا الطريق، لا أنه اتفقَ تعارضُ الأدلة باختلاف الرواة، فأورث خِفةً فيها، بل تلك النجاسات بحقائقها كانت خفيفةً بالنسبة إلى الدم مثلا، فأراد التنبيهَ على الفرق بينهما، فلو صرَّح به لتهاون بها الناس، مع أن المطلوب التوقي منها، فأدَّاها بإِعطاء المادة للطرفين، ليتردد فيه النظر ويَخِف الأمر مع بقاء العمل. وعلى هذا وَسِعَ لي أن لا أتأول في أحدٍ من الأحاديث التي وردت في هذه الأبواب على خلاف مذهبنا واكتفي بالمراتب. وأقول: إن أصل الفخذ عورة ولكن أمرها أشد من رأسها، وكذلك الاستدبار، وإن ورد به حديث ابن عمر رضي الله عنه، لكنه لا يثبتُ به، إلا أنه أخفُّ بالنسبة إلى الاستقبال أو الصحراء، وهكذا النواقض كلها كما دلت عليها الأحاديث، إلا أنَّ أمرَها أخفُّ مما ذهب إليه الحنفية رضي الله عنهم، فافهمه بعين الإنصاف وإمعان النظر، ينفعك في مواضع لا تُحصى. 368- قوله: (نهى عن بيعتين) ولعل الراوي جمع بين الحديثين: الأول: في الاحتباء في ثوب، والثاني: في البيع. واللِّمَاس: أن يَغمضَ المشتري عينه ثم يضعُ يده على شيء ويُلزمُ به البيع. والنِّبَاذ: أن ينبذ البائع شيئًا إلى المشتري مُغْمِضَا عينيه ويكون منه بيعُهُ بهذا فقط. ثم قيل: إنه كان قطعًا للخيار، وقيل: بل كان هو طريق الإِيجاب والقَبُول، وراجع كتاب «الآثار» لمحمد رحمه الله تعالى. 369- قوله: (ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ... إلخ واعلم أنَّ مكةَ فُتحت السنةَ الثامنة في رمضان. وعُمْرَةُ الجِعِرَّانة أيضًا كانت في تلك السنة، ولم يحُج النبي صلى الله عليه وسلّم السنة التاسعة لعدم كون الحج في أشهره في هذه السنة، فإِنهم كانوا يزيدون شهرًا بعد سنين على عادتهم في الجاهلية، وهو المراد من النَّسِيء في القرآن، فإذا جاء الحجُّ في أشهره في السنة العاشرة حجَّ النبي صلى الله عليه وسلّم ومن ههنا اندفع ما كان يَخْتَلِجُ أن الحجَّ إنِ افترضَ قبله فلِمَ أخَّرَه النبي صلى الله عليه وسلّم وهو وإن لم يكن واجبًا على الفور لكن المسارعةَ مطلوبةٌ، وفيه دليلٌ على عبرة الأغلاط التي تعذَّرَ إصلاحها، فإن الذين حَجُّوا قبلها قد اعتُبِرَ حجهم قطعًا، ولم يأمر واحدًا منهم بالقضاء، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلّم عليًا رضي الله عنه لأنه أراد أن ينبذَهُم على سواء، فبعث أقربَ رجلٍ إليه على عادةِ العرب.
قوله: (ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما)... إلخ هكذا قال الحنفية رضي الله عنهم: أن الفخذَ عورةٌ. والمصنِّف رضي الله عنه وإن مر منه إلا أنَّ الترمذيَّ أخرجه من وُجُوهٍ وحسَّنَه، وتحسينُ الترمذيِّ معتبرٌ عندي، وقيل: إنه متساهل في التحسين، ثم قيل: إن أكثرَ أفراد ابن ماجه ضِعَاف، والمراد من الأفراد عندي الرواةُ دون الروايات، لأني وجدتُ فيما أُفرد به ابن ماجه أحاديثَ صحيحة أيضًا، نعم، رواته المختصة قلَّما وجدتهم يبلغون الصِّحة. والذي يَظْهَر من صنيع المصنِّف رضي الله عنه أنه مال إلى مذهب مالك رضي الله عنه، وحمل ما ذهب إليه الحنفية على الاحتياط. قوله: (وحديث جَرْهَدٍ أحوط) يعني خروجًا عن الخلاف. وقد مر في آخر كتاب الغسل أن الأحوطَ قد يُطلقُ على الواجب أيضًا عند تعارض الأدلة. قوله: (غطى النبي صلى الله عليه وسلّم ركبتيه)... إلخ يمكن أن يكونَ ثوبُهُ إلى انتهاءِ الركبة، ثم إذا دخلَ عثمان جرَّه إلى ما تحته، وهذا في التعبير واسعٌ. قوله: (وفخذه على فخذي) وليس فيه أن فخذَه كانت مكشوفةً، فَذِكْرُه إذن من مُلحقاتِ الباب، ويمكن أن يكون غرضُ المصنفِ رضي الله عنه أنَّ الفخذَ لو كانت عورةً لما وضعها على الفخذ. وللمجيبِ أن يقول: إن في وضعِ الأعضاءِ بعضها على بعض مراتب، فأهل العُرف لا يبالونَ بوضع الفخذ على الفخذ إذا كانت مستورةً بثوب، بخلاف الأعضاء الغليظة، فهم يراعون هذه الأشياء من عند أنفسهم، كرفع القميص عن السراويل، وككبس الأرجلِ إلى أين ينبغي. ولعل المصنفَ رضي الله عنه أراد بيان هذه المسألة فقط، يعني أنَّ الفخذِ على الفخذَ متحملٌ، ولم يرد الاستدلال به. قوله: (أن ترضَّ فخذي) من أعباءِ الوحي، ولم يكن يتحمَّلُها أحد غير ناقته القَصْوَاء، ولعله لاعتيادها بها. وحصول المناسبة شيئًا كأبي بكر رضي الله عنه، فإنه لم يكن يسمع صوتَ الوحي غيره. 371- قوله: (غزا خيبر) في السنة السابعة. 371- قوله: (بغلس) وتعرُّضُ الراوي إلى التَّغليس كالاستغراب، يدلُّ على أنه لم يكن من عادتِهِ الشريفة، ثم إنه كان لأجلِ الغزوة، لا لأنه كان من سُنة الصلاة. 371- قوله: (فأجرى) أي مركوبه، أما ليسطو عليهم، أو لإلقاء الرُّعبِ عليهم. 371- قوله: (ثم حسر الإزار عن فخذه) وعند مسلم: «انحسر»، فلم يدل على أنَّه كَشَفَها قصدًا، على أن في «القاموس» أن حسر لازم أيضًا، فعلى هذا جاز أن يكون الإزارُ فاعلا له، لا سيما إذا كان عند مسلم: «انحسر» على أنه يمكنُ أن يكون حَسَرَ الإزارَ بمعنى وَسَّعَه لئلا يلزقَ بفخذه، وحينئذٍ يجوزُ أنه كان حسر الإِزارَ عما يجوزُ الحسرُ عنه، فانحسرَ عن فخذه، كما يتفقُ في الإزار. ثم عند البخاري في موضع آخر: «وإن قدمي لتمسُّ قدمَ النبي صلى الله عليه وسلّم مكان «فخذ النبي صلى الله عليه وسلّم . وفي «الفتح» عن «صحيح الإسماعيلي»: «أنه مشى نبي الله صلى الله عليه وسلّم في زُقَاق خيبر إذ سقط الإِزار» وهو أيضًا يدلُ على عدم القصد. وقال القرطبي: إن حديث أنس رضي الله تعالى عنه ورد في قضية معينة في أوقات مخصوصة، يتطرقُ إليها الاحتمالات، بخلاف حديث جَرْهَد، لأنه يتضمن تشريعًا عامًا. وقال النووي: ذهب أكثر العلماء إلى أن الفخذَ عورةٌ، وقد يتعسر على البعض جَرَيان مثل هذه الأمور على النبي صلى الله عليه وسلّم فيتمنَّون أن لا يكون جَرَى على النبي صلى الله عليه وسلّم شيء مما لا يحبه الشارع. قلتُ: وهذا غير كائنٍ، فإنّه أُلقِيَ عليه النومُ في ليلة التَّعْرِيس، وأُلقي عليه النسيان حتى قام للصلاة وهو جنبٌ، ثم تذكَّر قبل التحريمة. وقد مر بحثه. وأُقيم موسى عليه السلام بين قومه عُريانًا. قال المتكلمون: إن ما يعدُّونَه خلافَ المروءةِ لا يجوز وقوعهُ على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام. قلتُ: كشف الفخذِ لو كان وقعَ لم يكن خلافًا للمروةِ عند العرب أصلا، كما عُرِفَ من حالهم في التعري، حتى في الطواف أيضًا، والسر فيه أن وقوع هذه الأشياء مرةً أو مرتين في مُدة عُمْره لأجلِ مصلحةٍ لا يعدُّ شَيْئَا، وإنما يعدُّ خلافُ المروءة إذا تكرر وقوعُها وتساهَلَ فيها صاحبُها. 371- قوله: (بساحة) آنكن يعني مكانون كي سامنى. 371- قوله: (والخميس) سُمِّيَ به لأنه يشتملُ على مقدمة، وسَاقَةٍ، وقلبٍ، وجناحان. 371- قوله: (عَنوة) أي قهرًا. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إن مكة فُتحت صُلحًا. وكنتُ متحيِّرًا في أنه إذا عدَّ هذا الفتح صُلحًا مع هذه الحروب والضروب، فما الفتحُ عَنوة عنده؟ وتشوشَ فيه الحافظ رحمه الله تعالى أيضًا، ثم تبين لي أنه اعتبره صُلحًا، لأنهم التجأوا إليه آخرًا، فأولُ أمرِهم وإن كان القِتالُ، لكنهم إذا صالحوا آخرًا، وكَفَّ عنهم القتالُ عُدَّ الفتحُ صلحًا. وبوب عليه الطحاوي. 371- قوله: (فجمع السبي) من النِّسْوان والصبيان، لأن العربَ لا يُسترقُّ رِجَالُهم، وليس فيهم إلا الإسلام أو السيفُ عندنا، ثم إن أهلَ خيبر كانوا يهودًا. 371- قوله: (خذ جارية) وعند مسلم: «أن النبي صلى الله عليه وسلّم اشترى صفيةَ منه بسبعة أرؤس»، وفي النقول أنه أعطاه ستة. ثم إني علقت تذكرةً مستقلةً على أن جملةَ أنكحةِ النبي صلى الله عليه وسلّم كانت من أسبابٍ سماوية، وصفيةُ هذه قد كانت رأت رؤيا: أن البدر نَزَلَ في حِجْرِهَا، فقصَّتْها على زَوْجِهَا فلطمها، وقال: أتريد أن تنكحي بهذا الرجل؟ يريدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فكان كما رأته. 371- قوله: (أعتقها وتزوجها) وقد ذهب بعضُ أهلِ العلم: إلى أن الإِعْتَاقَ بشرطِ التزوُّجِ لا يحتاجُ إلى إيجابٍ وقَبُول مستأنف. وهذا اللفظُ يدل على أن التزوجَ أيضًا لا بد منه، ولا ينوبُ نفسُ الإِعتاقِ مَنَا. قوله: ((مال نفسها)) وهذا بيان للمآل، يعني لما أعتقها النبي صلى الله عليه وسلّم وأسقطت هي مهرَها عنه، لم يبقَ المهرُ إلا نفسُها، فإِنه لم يكن هناك إيفاءٌ واستيفاء لسقوط المهر، وكانت نفسُها هي التي استوفاها. فهذا نحو تعبير عُرفي، لا مسألة فقهية، وأظن أن النبي صلى الله عليه وسلّم أعتقها وتزوجها تحصيلا للأجر مرتين، على الحديث الذي مر في كتاب العلم، وسيجيء الكلام عليه. ثم إنهم اختلفوا: في أنه إذا كان أعطاها، فهذا الأخذُ كان شراءً منه، أو استردادًا في الهبة. ومالَ الحافظُ رحمه الله تعالى إلى الثاني، وأوَّلَ في لفظ مسلم: «اشترى صفية» وحمله على المجاز. 371- قوله: (عروسًا) مفعول يُطلقُ على المذكر والمؤنث. 371- قوله: (نِطعًا) سُفرة من أدمٍ. 371- قوله: (حيسًا) حلواء.
واستثنى الحنفية: الوجه، والكفين، والقدمين. 372- قوله: (ما يعرفهن أحد) قال النووي: أي أرجالٌ أم نساء، ليكون أدلَّ على التغليس، قلت: بل المراد به معرفةُ الأشخاص، ولا ريب في أن عدم معرفة الأشخاص معنىً مطلوب، حيث عَرَضَ عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: «ألا قد عرفناك يا سودة»، وإلى هذا المعنى أرشد القرآنُ فقال: {ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59) والمعرفة هنا هي معرفةُ الشريفة من الوَضِيعة، فإن المنافقين إذا وجدوا امرأةً وضيعةً، غمزوها وآذوهَا، فهديُ القرآنِ لإِدناء الجلابيب، لئلا يعرفنَ أنهنَّ شريفاتٍ أو وَضِيعات فلا يؤذين، فكانت تلك معرفة الأشخاص. أما عدم معرفة الرجال من النساء فليس فيه معنى، ثم ما يُعلم من عمل الشيخين هو البداية في التغليس، والنهاية في الإسفار، وهو الذي اختاره الطحاوي، وهكذا في كتاب الحج، قيل: هو من قلمِ أحمد بن عِمران، وقيل من قلم عيسى بن أَبَان، وعمل عثمان رضي الله عنه بالإسفار، وهو الذي اختاره المتأخرون منا. وعند ابن ماجه: تعني من الغلس، نظير الجواب.
373- قوله: (فإنها ألهتني) وفي الطريق الآتية المنقطعة: «فأخاف أن تفتنني»، فدل على أنه لم يقع شيءٌ من ذلك، وإنما خشي أن يقعَ، وإنا تحسُ هذه الأمور القلوب اللطيفة دون المغشوشة، وليس من طريقِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الاستغراقَ فيها، بحيث لا يبقى لهم حِسٌّ وشعور، ألا ترى أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا قام عن يساره، أداره إلى يمينه في الصلاة، فهذا شأنهم. 373- قوله: (وائتوني) قال ابن بَطَّال: إنما طلب منه ثوبًا غيرها ليُعلِمَه أنه لم يرده استخفافًا به، قال الطِّيْبيُّ: فيه إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرًا في القلوب الطاهرة، والنفوس الزكية، فضلا عمن دونها. مسألة وفي الفِقه: أنَّ من نقشَ المسجدَ بمالِ الوقف يضمنه، وإن كان بماله جاز.
وهي مسألةُ الصلاة لا مسألة التصوير، فادْرِ الفرقَ بينهما. قوله: (مصلب) والشكل المشهور هذا (). وفي «دائرة المعارف» أشكالٌ أُخرى أيضًا. قوله: (أو تصاوير) عطف على المعنى. كما في «المغني»، أن العطف قد يكون على اللفظ، وقد يكون على المعنى، وقد يكون على التوهم. واعلم أن هناك ثلاث مسائل: الأولى: فعل التصوير، وهو حرامٌ، صغيرًا كان أو كبيرًا. والثانية: حكم التصاوير في الصلاة. وحاصل ما في المتون: أن لا بأس بالمُمتَهن والصغيرة جدًا، بحيث لا تبدو للناظر وإلا كرهت. والثالثة: لُبْس الثوب المصور. وراجع التفصيل من «الفتح» لابن الهُمَام من مكروهات الصلاة، و «الموطأ» لمحمد بن الحسن. 374- قوله: (قِرَام) هتلا كيرا. تمثال عامٌّ من التصوير، فإن الثاني يختصُّ بذي الروح.
قوله: «فروج» كوك: وعند مسلم: «صلى في قَبَاء دِيبَاج ثم نزعه، وقال: نهاني عنه جبريل عليه السلام» فدل على أن صلاته تلك كانت قبل تحريم الحرير، ولعله نزعه لكونه بعين الرضا منه تعالى.
واعلم أن في الثوب الأحمر اختلافًا وانتشارًا في كتب المتأخرين، ولو صادفنا «تجريد القدوري» لاقتصرنا عليه. والحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى يأخذ بقول الحنفيةِ من هذا الكتاب، فدل على اعتباره عنده. وحاصل ما لخصتُ في تلك المسألة: أن اللونَ إن كان من الزَّعْفَرَان أو العُصْفُر كُره تحريمًا للرجال، وغيرهما إن كان أحمرَ قانيًا كُره تنزيهًا وإلا لا، وإن كان مخططًا بخطوط حمراء بلا كراهة. وقال بعضهم باستحبابه. وجاز الكلُّ للنساء، ثم إن تلك المسألة في الثياب دون الأَدَم. 376- قوله: (حلة حمراء) قالوا: إنها كانت مخططة. قلت: ووجدتُ له روايةً بعد تتبُّعٍ بالغٍ في «أحكام القرآن» لابن العربي. 376- قوله: (مشمِّرًا) أرسى هوئي.
جمع سطح، أي سقف. قوله: (والمنبر) موضعٌ مرتفعٌ، يُجْلَسُ عليه لإِلقاء الوعظ، فهذه هيئة. قوله: (والخشب) وهذا مادة. وحاصلُ الكلِّ أن السجدةَ وقعت على غير الأرض، سواء كان على هذه الهيئة أو تلك المادة، فأجاز الصلاةَ على غير جنسِ الأرض، وتجوز عندنا على السرير بدون عذر، لأنه يُتصوَّر عليه إلقاء الجبهة وهو الشرط. وإنما لا تصح على القطن لأنه لا تستقرُ عليه الجبهة، فلا يتحققُ معنى السجدة، وكذلك على الثلج، لأنه لا يتأتَّى فيه الطرحُ والإِلقاء إلا بالاستمساك، واستمساكُ الجبهة ليس بسَجْدةٍ، بل هو مَسَاس، لا طرحٌ وإلقاءٌ، والشرط هو هذا دون ذلك، فافترقا، فمن قاس السريرَ على الثلج فكأنه لم يراع ما قُلنا. قوله: (الجمد) يخ. قوله: (والقناطر) وإن جَرَى تحتَها بولٌ، وهذا على عادتهم في البلادِ الباردة، أنهم كانوا يذهبون بمواشيهم تحت القناطر، فتبول، ويجري البولُ من تحتها. وظهر منه أن حملَه على بولِ ما لا يؤكلُ لحمه بعيدٌ كلَّ البُعد، بل هو بول ما يؤكل لحمه، فدل على نجاسته عنده، كما هو مصرح عند الطحاوي عن الحسن: أنه كره أبوال الإِبل والبقر والغنم. ثم في «الدر المختار» عن «حاوي القدسي»: أن الصلاةَ على سطح الاصْطَبل مكروهةٌ، والظاهر أن الوجه فيها الروائح الكريهة. وليس فيه مسألةُ الصلاة على سطحٍ تحته نَجِسٌ، وذلك لأنه خصَّ الاصطبل بالذكر، وفيه تكون ذلك. قوله: (إذا كان بينهما سترة)... إلخ يعني به طهارة موضع المُصلى، ومختارُ الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى في طهارة المكان: طهارةُ مواضِعِ السجودِ فقط، فلو صلى وبحذاءِ صدرِهِ نجاسةٌ، صحت صلاتُهُ وإن كره، وفيه أن النجاسة المفسدة هي التي ينسب حملها إليه، وإلا لا. قوله: (وصلى أبو هريرة رضي الله عنه) انتقل إلى مسألة أخرى، وهي أن الإِمام إذا كان تحت السقف، والمأموم فوقه، هل تصح صلاته؟ فتصح عندنا إذا علم انتقالاتِ الإِمام، سواء كان بينهما منفذ، أو لا. 377- قوله: (اثل) (جهاؤ) وهذه الشجرة على نحوين: العظيمةُ منهما تُسمَّى أثلا، والصغيرة طَرْفَا. 377- قوله: (الغابة) موضعٌ معروف من عَوَالي المدينة. واختار الحافظ رحمه الله تعالى أن المنبرَ عُمِلَ في السنة التاسعة. وعندي رواياتٌ تدُل على أنه متقدِّمٌ بكثير، وإنما عارضتُ فيه الحافظَ رحمه الله تعالى، لأنه يُعْلَمُ من بعض الروايات أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قام متكئًا بجذعٍ في المسجد في واقعة ذي اليدين- وكانت تلك الجذعُ هي الأَسطُوانة الحنَّانة، كما أشار إليه القاضي عياض، وقد دفنت حين عُمِلَ له المنبر- فيدل على أن واقعةَ ذي اليدين متقدمةٌ جدًا. وهذا ينفعُ الحنفية في مسألة نسخِ الكلام كما لا يخفى، بخلاف ما اختاره الحافظ رحمه الله تعالى، فإِنه يمكن أن يكونَ واقعة ذي اليدين في السنة الثامنة مثلا، وكان قيامُهُ بتلك الجذع لأنه لم يُعمَل له المنبرُ إذ ذاك، فيدلُ على تأخُّرِ هذه القِصة جدًا. وسَهْلُ بن سَعْد هذا آخرُ الصحابة المدنيين وفاةً. 377- قوله: (ثم رجع القَهْقَرَى)، قلت: إنما كان ذلك بخطوتين وهو عمل قليل، لأن منبر النبيِّ صلى الله عليه وسلّم عُمِلَ بثلاث درجات، فلو كان قيامُهُ على الدرجة الثالثة أمكنَ نزوله عنها بخطوتين، وهذا عمل قليل. وحقق ابن أمير حاج: أن المشي الكثير أيضًا غير مفسدٍ إذا كان متفاصلا. ثم في الحديث دليل على جواز كون الإِمام أعلى من القوم، ونهى عنه عند أبي داود. قال النووي: كراهة الارتفاع إنما هي عند عدم الحاجة، فإِن كان لحاجةٍ بأن أراد تعليمَ الصلاة لم يُكره، بل يستحبُّ لهذا الحديث، وكذا إن أرادَ المأمومُ إعلامَ المأمومين بصلاة الإِمام، واحتاج إلى ارتفاع. انتهى مختصرًا. قلتُ: وكذا في «الدر المختار» عن «الاختيار»: أنه يجوز للإِمام إذا احتاج إليه، إلا أن لي فيه ترددًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان عليه طردُ الدين وعكسُهُ، وأما مَنْ بعدَه فلا أرى أن يُسوَّغَ له ذلك؛ لأنه ليس اليوم أحدٌ منهم يتقصرُ عليه التعليم، فليقصر عليه صلى الله عليه وسلّم ولا يوسَّعُ به في حق سائر الأئمة، لأن الضرورة تحققت في حقه صلى الله عليه وسلّم خاصة. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلّم إنما فعل كذلك لأنه لم يتفق لهم رؤية صلاة النبي صلى الله عليه وسلّم قبله، إلا لمن كان في الصف الأول، فأراد أن يشاهدوا جميعَهم مرةً ليتعلَّموا صلاتَه، ويحفظوا عنه، كما هو عند مسلم: «يا أيها الناس إني صنعت هذا لتأتَمُّوا بي، ولتَعَلَّمُوا صلاتي»، كأنهم قبل ذلك لم يشاهدوا صلاةَ النبي صلى الله عليه وسلّم وإنما أْتَمُّوا به بواسطة الصف الأول، فأراد أن يكون الجميع سواءً في رؤية صلاته والائتمام به، وهذا سائغ للشارع. أما من كان إمامًا كسائر الأئمة، فلا أرى له هذا التوسيع. والله تعالى أعلم. ثم التَّحيُّرُ من ابن حَزْم حيث مرَّ على هذا الحديث، وادَّعى أن تلك الصلاةَ كانت نافلةً، وتمسك بالجماعة في النافلة، وشدَّدَ على من أنكرها، مع التصريح في الصحيح أنها كانت صلاةُ الجمعة. ثم لا يذهبُ عليك أنَّ الراويَ لا يذكرُ للمقتدين ههنا قراءةً، ولا يقول: فقرأ وقرأ الناس معه، وذلك لأنه لا قراءةَ في الجهرية مع الإِمام، وليست في «الأم» عند الشافعي رحمه الله تعالى، غير أن المُزَني يحكي عن الربيع روايةَ القراءة في الجهرية عن الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى، فاحفظه ولا تغفُلْ. وابنُ حَزْم هذا كان أُجلي من بلده. من سعي المالكية، وتوفي في البرية ولم يكن معه أحد. وصنف عشرة آلاف من الأوراق، وجاء منها «المحلى» مطبوعة، وعليه حاشيةٌ لبعض غير المقلدين، وتتبَّع على أغلاطِهِ الحافظ قطب الدين الحلبي الحنفي من المئة الثامنة. 377- قوله: (إنما أردت)... إلخ وفاعله أحمد بن حنبل، لا علي بن المديني كما حرره شيخ الإِسلام بين السطور، وهو حفيدٌ لمولانا عبد الحق الدِّهلوي رحمه الله تعالى. وله حاشيةٌ على الجلالين يُسمَّى ب: «الكمالين»، وهو أحسن من حاشية علي القاري «الجمالين» وكنت أرجُو أن تكون حاشيتُهُ لطيفةً لكونه قارئًا، فلما رأيتُها وجدتُها سطحيةً، أما في باب الأحاديث فقد رأيتُهُ يرتكب الأغلاط كثيرًا. أما حاشيةُ ذلك الحفيد فلا ريبَ أنه جيدٌ حتى أظنه أعلمُ من جدِّه. 377- قوله: (قال: فقلت)... إلخ أي قال علي بن المديني. 377- قوله: (قال لا) قال الحافظ رحمه الله تعالى: وهذا صريح في أن أحمد بن حنبل لم يسمع هذا الحديث من ابن عُيَيْنَة، وقد راجعت «مسندَه» فوجدتُهُ قد أخرج فيه عن ابن عُيَيْنَة بهذا الإسناد من هذا الحديث، قولَ سَهْل: «كان المنبر من أَثْلِ الغابة» فقط، فتبيَّن أن المنفي في قوله: «فلم نسمعه منه قال: لا» جميعُ الحديث لا بعضه، والغرض منه ههنا، وهو صلاته صلى الله عليه وسلّم على المنبر داخلٌ في ذلك البعض، فلذلك سأل عنه علي بن المديني اه. قوله: (سقط عن الفرس) قال ابن حبان: وهي وَاقعةُ السنة الخامسة. وقال الحافظ في المجلد الثامن: وحاصله: إنها في التاسعة. قلتُ: وهو قطعي البطلان، وأتعجَّبُ من مِثْلِ هذا الحافظ أنه كيف غَفَلَ عنه. ولعله دَعَاه إليه ذكر إيلاءِ النبي صلى الله عليه وسلّم في تلك الواقعة، وكان في السنة التاسعة، فجعل سقوطَ الفرسِ أيضًا فيها. والذي تحقق عندي أن قِصةَ السقوط عن الفرس وإيلاءِه صلى الله عليه وسلّم واقِعَتان في عامين مختلفين، وإنما جمعهما الراوي في حديثٍ واحدٍ لجلوسِهِ صلى الله عليه وسلّم في المَشْرُبة فيهما. أما في السقوط فلأن أصحابَه يجيئون لعيادته، وأما في قصة الإِيلاء فللتخلي والتجنب عنهنَّ قصدًا. 378- قوله: (آلى من نسائه) وهذا إيلاءٌ لغويٌ لا شرعيٌ. قال الشيخ ابن الهمام رحمه الله تعالى: إن الإيلأَ اللغويَّ جَائِزٌ. واضطرب فيه الشافعية، فلعله لا يجوز عندهم. قيل: المُهَاجَرَةُ فوق الثلاث ممنوعٌ، فكيف هاجرهنَّ شهرًا؟ قلتُ: إن المُهَاجَرَةَ إلى الثلاث مباحٌ، وأزواجُه كنَّ تسعةً أو إحدى عشرة، فحصل بضربِ التسعةِ في الثلاث شهرًا، فكأنه لم يهاجر كلهن إلا ثلاثًا، أما التناوب في المهاجرة فكان ركيكًا، فهاجرهنَّ معًا. 378- قوله: (يعودونه) وهذا في واقعة السقوط، لأنه صلى الله عليه وسلّم لم يكن عليلا في قِصة الإِيلاء. وفي البخاري عن عمر رضي الله عنه في قصة الإِيلاء، أنه قال: «صليت الفجر خلفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في المسجدِ»، بخلافِ قصة السقوط، فإنَّ قدمه كانت انفكت، على ما في بعض الروايات، فلم يكنْ يحضُر المسجد في تلك الأيام، وهذا كله يدُل على المغايرةِ بين القِصتين، فكيف غَفَلَ عنه الحافظ رحمه الله تعالى وجعلها في السنة التاسعة؟ 378- قوله: (إنما جعل الإِمام)... إلخ وهذا يدُل على شدَّةِ الربط بين صلاةِ الإمام والمقتدي، واعتبره الحنفية رحمهم الله تعالى، بخلاف الشافعية فإنه عندهم عبارةٌ عن الاتِّباع في الأَفعال فقط، حتى إنهم جعلوا التسميعَ على المقتدي، وليس معهم في تلك المسألة عن السلف إلا رجلٌ أو رجلين. وسنعود إلى تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى. 378- قوله: (فإذا كبر فكبروا) وقد مر مني أن الفاءَ عندهم تُستعملُ في التعقيب الذاتي أيضًا، ولا تنحصرُ في التعقيب الزماني، وحينئذٍ لا يدلُ على التعقيب في الأفعال، كما رامه الشافعية رحمهم الله تعالى، ويصدق على مذهبنا أيضًا، فإن المختارَ عندنا المقارَنةُ في جميع الأفعال. وعند الشافعية: التعقيب في جُملتها. وعند الصاحبين: المقارَنةُ إلا في التكبير والتسليم. وروي في بعض طرقهُ: «إذا قرأ فأنصتوا» أيضًا، وعلله المحدثون، وقد كشفتُ حقيقتَه في رسالتي «فصلُ الخِطَاب» أن هناك حديثان: الأول ما في واقعة السقوط، ويرويه مَنْ كان منهم في السنة الخامسة، وليس فيه تلك القِطْعَةُ، لعدم الحاجة إليه فيه، لأنه سِيْقَ لبيانِ المشاكلةِ بين الإِمام والمقتدي، وسائرُ الأجزاءِ ذُكرت فيه تبعًا، والحديث الثاني يرويه مَنْ جاء منهم في السنة السابعة، وفيه تلك القِطعة، ويجيء بسطه أزيد من هذا. واعلم أن صلاةَ القائمِ خلفَ القاعدِ جائزةٌ عندنا وعند الشافعية. وعند أحمد رضي الله عنه لا تجوز، بل يجب على القوم أن يقعدوا أيضًا وإن لم يكونوا مَرْضى، لأجل هذا الحديث. ثم قالوا: إن قعودَ الإِمام إن كان طارئًا يسعُ للقومِ أن يقوموا. وعند مالك: لا يجوز اقتداؤه مطلقًا. فذهب الحنفيةُ والشافعيةُ إلى نسخه، وإليه ذهب البخاري، وصرح به في موضعين من كتابه. قلتُ في جوابه: إن حاصل الحديث استحبابُ المشاكلةِ بين الإِمام والمأموم، لأن الإمامَ جُعِلَ لِيُؤتمَّ به، ولم يرد في بيان تفاصيل جواز القيام والقعود أنه متى يجوز ومتى لا يجوز، فليكله إلى الخارج كما قرره الشارعُ في موضعه. ومحصَّلُه عدمُ ابتغاءِ الاقتداءِ بالإِمام القاعد، فإن اقتدَوا به فالمطلوبُ المشاكلةُ مهما أمكن. هذا في الحديث القولي. وأما وجه ما رواه أبو داود من واقعةٍ جُزئيةٍ، فالجواب عنه أن القومَ كانوا متنفلين؛ لأن الظاهرَ من حالهم أنهم صلوا الظهرَ في المسجد، لأنه بعيدٌ كلُّ البعدِ أن تبقى المساجدُ في تلك الأيام معطلةً عن الجماعة، ثم جاؤوا لعيادتِهِ صلى الله عليه وسلّم فوجدوه يُصلي فدخلوا في صلاته تحصيلا للبركة على عادتهم، حيثما رأوه يُصلي اقتدَوا به كما فعلوا في رمضان، فلم يخرج إليهم خشيةَ أَنْ تفترضَ عليهم، فلم تكن صلاتُهم تلك لإِدْراكِ الفريضة، بل لتحصيلِ البركةِ، فكانت هذه صلاة لا تدعى لها، بل التي تكونُ في البيوت. وإنما جاء من جاء للعيادة فاتفق أنْ وَجَدَهُ يُصلي فدخلَ معه لطوعه، وحملَه الناسُ على الفريضة ثم عمّموها. وسنقرره إن شاء الله تعالى بوجه أبسط منه فراجعه من بابه. فإن قلت: إن الناسخَ لحديث السقوط عند من زَعَمَ النسخَ، صلاتُهُ صلى الله عليه وسلّم في مرض موتهِ، وللرواةِ فيها اضطرابٌ في كونه إمامًا ومأمومًا. قلت: وهذا إنما يَرِدُ على مَنْ ذهب إلى وحدة الخروج كالشافعي رحمه الله تعالى، أما أنا فقد التزمتُ الخروجَ في أربع صلوات، فكان إمامًا في بعض دون بعض، على أن حديثَ الحنابلة أيضًا لا يخلو عن اضطراب، لما عند مسلم: «فصلى بنا قاعدًا، فصلينا وراءه قعودًا»، وهذا يخالفُ ظاهرَ حديث أنسٍ رضي الله عنه ههنا، وللتأويلِ مجالٌ وسيعٌ، فاضطرب حديثُ السقوطِ أيضًا. مسألة وليعلم أن المسألةَ فيمن دخلَ المسجد وقد صلى، أنه يُعيد الظهرَ والعشاءَ. وفي «فتح القدير»: أنه ينوي النفل. قلت: وفيه تسامحٌ، بل المذهب أنه يُعيدُ ويصلي تلك الصلاة بعينها، نعم، تقع عنه نفلا لسقوط الفريضة عنه من أولها. كما أن الصبيانَ يصلون الظهرَ والعصرَ مثلا، ثم لا يقع منهم إلا نفلا. والعجب أن الحافظ رحمه الله تعالى نقلَ مذهبَنَا صحيحًا مع أنه شافعيٌ، والحنفية يغلَطُون فيه. وهكذا في «المبسوط» للجُوْزَجاني، و «الجامع الصغير»، وكتاب «الآثار»، وكتاب «الحجج»، و «الموطأ» لمحمد، وبه صرح الطحاوي. وسيجيء بسطُهُ في صلاة معاذ رضي الله عنه مع قومه، فانتظره. فالمذهبُ هو الإِعادَةُ دون التنفُّلِ فاعلمه، فإِنه ينفعكَ في كثير من الأحاديث. 378- قوله: (فقال: إن الشهر)... إلخ يعني قد يكون الشهرُ تسعًا وعشرين. ثم إنهم اختلفوا في سبب الإِيلاء، فقيل: قِصة مارية القِبْطية، وقيل: طلبهنَّ النفقة، وقيل: قِصة العسلِ.
وقد مر عن «الفتح»: أن النجاسةَ المفسدةَ هي التي يحملها المصلي، ولا بأس بأن وقعَ ثوبُ المصلي على نجاسةٍ يابسةٍ.
قال ابن بَطَّال: إن كان (ما يصلي عليه كبيرًا) قَدْر طولِ الرَّجُلِ فأكثر، يقال له: حصير، وإلا يقال له: خُمْرة. وقد مر الكلام فيه. ثم إن الصلاة عند مالك رحمه الله تعالى ينبغي أن تكونَ على جنس الأرض، فإن صلى على غيره كُره. واختارَ البخاريُّ السجدةَ على جنس الأرض وغيره كما هو مذهب الجمهور، فأثبت الصلاةَ على الحصير- وهو يصنعُ من سَعَف النخل- ثم من عادات البخاري وضعُ التراجِمِ لمجرد إحصاء الجزئيات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلّم فبوَّبَ بالصلاة على الخُمْرة، وفي الفِراش. قوله: (وصلى جابر رضي الله عنه)... إلخ وجاز فيه القعود عند الإِمامِ الهُمَام بلا عذر. ويُؤيدُهُ أثرُ أنسٍ رضي الله عنه: «إنه كان يذهبُ من البصرةِ إلى أرض له ويُصلي جالسًا، والظاهرُ عدم العذر. وعند صاحبيه يجوزُ بالعذر، وإلا لا. قلت: والعمل على مذهب الصاحبين أولى، ثم إن مشايخنا كانوا يعدُّون القِطَار كالسريرِ المستقرِ على الأرض، فلا تجوز الصلاة فيه إلا قائمًا، وقيل: إنه كالسفينة، فتجوز قائمًا وقاعدًا وهو المختار عندي. وأما السفينة إذا كانت بشطِّ البحر، ففيه تفصيل مذكورٌ في الكتب. 380- قوله: (إن جَدَّتَهُ) قيل: الضمير إلى إسحاق، وقيل: إلى أنس رضي الله عنه وكلاهما صحيح، فإن أمَّ سليم والدة أنس رضي الله عنه كانت تزوجت بعده أبا طلحة رضي الله عنه، فصار عبد الله أخًا لأنس رضي الله عنه، وصارَت مُلَيْكَةُ جَدَّةً لإِسحاق بن عبد الله. 380- قوله: (اليتيم) علمٌ بالغَلَبَة، واسمُهُ ضميرُة. ثم إن مولانا عبد الحي رحمه الله تعالى ضعَّف مسألةَ المُحَاذات. قلت: بل هي مسألةٌ قويةٌ، لكنها مسألةٌ اجتهادية، ويُسوَّغُ للمجتهد أن يحملَ تأخير الصبيانِ في مرتبةِ السُّنِّية، وتأخيرَ النِّساء في مرتبة الشرطية، لفروقٍ سَنَحتْ له. مثلا ثَبَتَ في الأحاديث كراهةُ الصلاةِ خلف الصفِّ وحدَهُ، حتى ذهب أحمد رحمه الله تعالى إلى بطلان الصلاة، ومع ذلك أخَّرَهَا النبيُّ صلى الله عليه وسلّم ولم يتركها أن تقومَ مع صف الرجال، ولم يثبت عنه إقامةُ النساءِ مع صفِّ الرجالِ ولو مرةً، بخلاف الصبيان، فإِنهم وإن سُنَّ تأخيرهم عن صف الرجال، لكنه ثبتَ إقامتُهم في صف الرجال عند انعدام رجل آخر لتحصيلِ الصف. فَعُلِمَ أنه يحتمل قيام الصبيان مع الرجال في صورة، بخلاف النِّسْوان، فإنه لا يحتمل مطلقًا، فلو كانت واحدة لصفت وحدَها، ولا تحاذى بالرجال، وحينئذٍ ساغ للمجتهد أن يحملَهُ على الشرطية، ويقول بفساد الصلاة عند محاذَاتِها بالرجال. وما قال صاحب «الهداية»: «أَخِّرُوهُنَّ من حيث أَخَّرَهُنّ اللَّهُ» خبر مشهور، اعترضَ عليه مولانا عبد الحيِّ رحمه الله تعالى. قلتُ: أراد به المشهور عند الأصوليين أي متلقى بالقَبول. ثم لا يخفى عليك أن النساء قد فُضِّلنَ بأمورٍ، فليست فيهن الجماعة، فلو فعلْنَ يقوم إمامُهنَّ وَسَطَهنَّ كالعُرَاة، فإذا حُرِمْنَ عن الإِمامة حُرِمْنَ عن النبوة أيضًا. فهذه المسائل تدُل على دُنُوِّهن من الرجال في كثير من الأبواب.
قوله: (قال أنس رضي الله عنه)... إلخ والسجدة على الثوب الملبُوس جائزةٌ عندنا، كما يظهر من أنس رضي الله عنه، ولا تصح عند الشافعية، ولعل تَفَقُّهُهُمْ فيه أنَّ الثيابَ أيضًا تسجد، فينبغي أنْ تكون السجدةُ على ما عداها. قلتُ: وهذا من النِّكَات فلا تدارُ عليها المسائل. 382- قوله: (غمزني) وعند أبي داود: «أَنَّ يدَهُ كانت تَقَعُ على رجلي»، وهذا دليلٌ على أنَّ مسَّ المرأة ليس بناقض، وأوَّلَه الشافعية رضي الله عنهم. وفي «الدر المختار»: أنَّ الوضوءَ بمسِ المرأةِ مستحبٌ خروجًا عن الخلاف. قلتُ: أما الاستحبابُ فلا كلامَ فيه، وأما دليلهُ ففيه نظرٌ، والأشبه أنْ يُقال: إنَّ الأحاديثَ إذا صَحَّتْ في الطرفين عَدَلنا من الوجوبِ إلى الاستحباب، وقد مر الكلام في الطهارة مبسوطًا. ويُعْلَم من بعض ألفاظِهِ أن صلاتَهُ تلك، كانت على السرير. 383- قوله: (اعتِرَاضَ الجَنَازة) وتُسْتَنْبَط منه إشارةٌ إلى ما اختارَهُ الحنفية: أن الإِمامَ يَقومُ وسطهُنَّ. فائدة واعلم أن الإِشارةَ قد تَفُوق على العبارة، فإنَّ العبارة تَدلُ على الواقعةِ الجُزْئيةِ أنها كذلك، بخلافِ الإِشارة، فلكونها مشبهًا به تدل على تَقَرُّرِها في الأذهان، كأنَّها أمر مفروغٌ عنه، حتى يذكر كالمشبَّه به، وليس كذلك العبارة، فإِنَّها لا تَدلُّ على التصريح بما صرح فقط.
ولعلها مسألة أخرى، فإنه أضاف فيها قَيدَ شدة الحر، وتقرر في علم المعاني: أنَّ الحكمَ إذا ورد على مقيد، كان محطَّ الفائدة القيود، ففرَّقَ بين قولك: جاءني زيد، وجاءني زيدٌ راكبًا، وجاءني زيدٌ راكبًا أمس، فإنَّ المقصود في الأول الإخبار بالمجيء فقط، وفي الثاني إخباره بمجئيه راكبًا، وفي الثالث بالركوب والمضي كليهما. وكره السجود على كَوْرِ عِمَامته، والقَلَنْسُوة، قيل: إنَّها نوع من العِمامة. وقيل: إنَّها قَلَنْسُوة ذات الأذنيين (كنلوب).
وقد علمت أنَّ النِّعال غير المِدَاس المعروف الآن في بلادنا، والصلاة في المِداس ربما لا تصح؛ لأنَّ القَدَمَ تبقى فيها معلَّقة، ولا تقع على الأرض، فلا تتم السجدة. ثم في الشامي: أنَّ الصلاة في النعلين مستحبة، وفي موضع آخر: أنَّها مكروهة تنزيهًا. قلتُ: بل هي مباح، وحقيقة الأمر عندي: أنَّ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا ذهبَ إلى الطورِ {ونودي أن يا موسى إني أنا ربك فاخْلَع نَعْلَيْك} (طه: 11- 12) حَمَلَهُ اليهودُ على النهي مطلقًا، فلم يُجوِّزوا الصلاة في النعلين بحال، وغلطوا فيه فأصلَحهُ الشرع، وكشَفَ عن حقيقته مِنْ أَنَّها جائزة فيهما، وما زعموه باطل، ولذا وَرَدَ في بعض الروايات: «خالفوا اليهود» فَعُلِم أنَّ الأمرَ بالصلاةِ فيهما على ما في بعض الروايات، إنما هي لأجل تقرير مُخالفتهم، لا لأنها مطلوبة في نفسها. وعن كعب الأحبار- عند مالك في «موطأه»- أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أُمر بالخلع لأن نَعْلَيْه كانتا من جلد حمار ميت. قلتُ: وظاهر القرآن يقتضي أنَّ أَمْرَ الخَلعِ كان تأدُبًا ولذا قَدَّم قوله: {إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ}، ورتب عليه: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ}، إشعارًا بسبب الخلع، ولكنه لا يُوجب عدم الجواز، فالجواز باقٍ مع أنَّ التأدُّبَ في الخلع. وحاصلُ ما قررَهُ الشارع: أنَّ الصلاةَ في النعلين جائزة، سَوَاءٌ كان أمرُ الخلع لِمَا ذَكَرَهُ كعب، أو لِما يرشد إليه ألفاظُ القرآن، وليس كما زَعَمَهُ اليهود من عَدَمِ جَوَازِ الصلاةِ فيهما. وهكذا دأبُ الشريعة في مواضع، فمتى ما غير اليهودُ أمرًا وكانت فيه مَغْلَطَة، تَرِدُ الشريعةُ بإصلاحه، كاشفةً عن حقيقته. 386- قوله: (قال: نعم) ولا دليلَ فيه أنَّ صلاته تلك كانت في المسجد أو خارجها، فلْيُنْظر فيه أيضًا. وليُعْلَم أنَّ القرآن قد يُعبرُ القصةَ الواحدةَ بألفاظٍ متغايرة كما فعل ههنا، ففي موضع {إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} وفي تلك القصة بعينها في موضعٍ آخر {إِنّى أَنَا اللَّهُ} مع أنَّ التحقيقَ عندي أنَّ الآية إذا وردت باسم من أسماء الله تعالى، فالأنسب هو ذلك الاسم بذلك الموضع، ويكون له دَخْلٌ فيه، لا أنه وقع اتفاقًا، لكونه عبارة عن مسمَّى واحد، كقوله تعالى: {السارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديَهما جزءًا بما كَسَبا نكالا من ا وا عزيز حكيمٍ} (المائدة: 38) فالأنسب ههنا هو {عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، ولو قال: والله غفور رحيم، لفات عنه الحُسْن، وتقريره في مَقَامِهِ مشهورٌ، فلا أدري أنَّ النداء كان بقوله: {أَنَاْ رَبُّكَ} كما في موضع أو بقوله: {أَنَا اللَّهُ} كما في موضع آخر.
قوله: «خف» موزه وراجع «الكبيري» لمسائله. 387- قوله: (لأن جريرًا)... إلخ. والعجب أنَّ قوله تعالى: {فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} (المائدة: 6) كان دليلا على إيجاب غَسْلِ الأَرْجُل عندهم، حتى كان يُتَوهم منه نسخ مسح الخف، ولذا كانوا يحبون حديثَ جَريرٍ، لأنه أَسْلَمَ بعد نزول المائدة، فلو كان المسحُ منسوخًا كيف أَدْرَكَهُ جرير؟ فإذا رواه جرير مع إسلامه بعد المائدة، عُلِمَ بقاؤُهُ بَعْدَهُ أيضًا، وأَنَّهُ لم يُنْسَخ منها، فلم تَبْقَ حِيْلَة لمن أَنكر المَسْحَ بأَنَّهُ كان، ثُمَّ نُسِخَ بِنُزولِ المائدة- والروافضُ الملاعِنة يفهمون أنَّ آية المائدة، قامت دليلا على مَسْحِ الأَرْجُل بدون الخِفَافِ أيضًا، على نقيض ما فهمه الصّحابة رضي الله عنهم، فانظر كيف انقلبَ الحال ظهرًا لبطن. أقول إنَّ المَسْحَ في اللغةِ بمعنى مَسَاسِ الماءِ وإسالتِهِ أيضًا، كما ذكره ابن تيمية رحمه الله تعالى. وحينئذٍ مسحُ الرأس هو بإمرارِ اليدِ المُبْتَلَّة؛ ومسحُ الأَرْجُلِ بِإِسَالَةِ الماءِ عليها، وليس هذا مِنْ بَابِ عمومِ المشْتَرك. والوجه فيه عندي: أنَّه مِنْ بَابِ اختلافِ المعاني باختلاف المحال، فمسحُ الرأسِ هو الإِصرار، ومسحُ الأَرْجُل هو الإِسالة كما قلت في لفظٍ النَّضْح، فإِنَّ النَّضْحَ لفظٌ واحد، وله معنىً واحد، إلا أنه اخْتَلف باختلافِ المحال. فالواحد: نَضَحُ البحر، وأَنْتَ تَعْلَم أَنَّ نَضْحَ البحرِ يكون بقدر عِظَمهِ، فلو مَاج البحرُ موجَةً يقال: إنه نَضْحٌ. والآخر: نَضْحُ النَّواضح، وهذا النضح أيضًا يكون بقَدْرهِ، فيكون أقل مِنْ نَضْحِ البحر بكثير. والثالث: نضحُ الإِنسان، وهو أخف من الكلِّ، ويكون بمعنى الرأس، وقد ذكرناه مرةً في الطهارة بَسْطًا منه، وكذلك المسح في الرَّأسِ بمعنى الإِمرار وفي الأَرْجُلِ بمعنى الإِسالة، لا مِنْ جهةِ تغايرِ معناه، بل من جهةِ المحال المختلفة وموارد الاستعمال. وحاصله: أنَّ النَّضْحَ والمَسْحَ واحدٌ، وأشكالها مختلفة، ففي موضعٍ كذا، وفي موضع كذا.
وستجيء هذه الترجمة والتي بعدها في صفة الصلاة بعينها، ولولا أنه ليس مِنْ عادة المصنف رحمه الله تعالى إعادة الترجمة وحديثها معًا، لكان يمكن أن يقال، مناسبةُ الترجمة الأولى لأبوابِ سَتْرِ العَوْرَة، الإِشارةُ إلى مَنْ تَرَكَ شرطًا لا تصح صلاتُهُ، كمن تَرَكَ ركنًا، ومناسبة الترجمة الثانية، الإِشارةُ إلى أَنَّ المجافاةَ في السجودِ لا تستلزمُ عَدَمَ سَتْرِ العَوْرَة فلا تكونُ مُبْطِلَة للصلاة، كذا قاله الحافظ. ثم اختار أنَّ الحَمْلَ فيه عندي على النُّسَّاخ، بدليل سلامة رواية المستملي من ذلك، وهو أحفظهم.4 قلتُ: ويُمْكِنُ أنْ يُتكلف، ويقال: إنَّ الفقهاء ذكروا للسجدةِ شرائط، كوجْدَانِ حَجْمِ الأَرْضِ في سجوده، فهي من شرائط الصلاة من هذه الجهة. ومن جهة التعديل، والطمأنينة، معدودة في صِفَةِ الصلاة.
وإنَّما أَتَى به من جِهَةِ أَنَّ المجافاةَ في السجودِ، لا تستلزمُ عَدَمَ السَتْرِ، كما مَرَّ الحافظ رحمه الله تعالى، لا من جهةِ كَيْفِيَّةِ السجود، وهو مِنْ تِلْكَ الجِهَةِ معدودٌ مِنْ صفاتِ الصلاة. 390- قوله: (فَرَّجَ بين يَدَيْهِ)... إلخ ليستوفي كُلُّ عضوٍ حَظَّهُ مِنَ السجود، لأنَّه نَصَّ الحديثُ على سَجْدَةِ أَعْضَاءِ السجودِ كُلِّها، وبالانضمامِ تَصِيرُ الكلُّ كالعضوِ الواحد، فلا يَتَوَفَّرُ حَظُّ كلَ منها على حِدَةٍ مع أنَّه مطلوب. 390- قوله: (ليثُ بن سَعْد). قال الشافعي رحمه الله تعالى في حَقِّهِ إنَّه ليس عندنا دون مالكٍ رحمه الله تعالى، إلا أَنَّ أَصْحَابَهُ أضاعوه. وفي لفظٍ عندي: أَنَّهُ أفقه مِنْ مالكٍ رحمه الله تعالى، وفي لَفْظٍ آخر: ما آسَيْتُ على عدَمِ لقاءِ أحَدٍ كما آسى على ليثِ بنِ سَعْدٍ، وكان يَذْهبُ إلى قَبْرِهِ ما دَامَ في مصر، وكَتَبَ ابنُ خَلِّكَان: إنِّي رَأَيْتُ في بعضِ المُبيَّضَات: أنَّهُ كان حنفيًا وَرَحَل مِنْ مِصْرَ إلى مكة، ثمَّ إلى المدينة، ثمَّ إلى العراق، لمجردِ تَحْصِيلِ العِلْم، وَلَعَلَّهُ لقيَ أبا يُوسف رحمه الله تعالى هناك فَرَوَى عنه، وأَخْرَجَ الطَّحَاوي رِوَايتَه عن أبي يوسف، في بابِ رَفْعِ اليدينِ، وليست تلك الرِّوَاية إلا عند أَهْلِ الكوفة، وصَنَّفَ الحافظُ رحمه الله تعالى، في مناقبه رسالة سمَّاها «الرحمةُ الغيثيةُ في ترجمةِ الليثيةِ»، وكَتَبَ الذهبي رسالةً مستقلةً في مناقب الإِمام أبي حنيفة، وصاحبيه رحمهم الله تعالى.
قوله: (يَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ القِبْلَة). إنْ كان الغرضُ مِنْ ذِكْرِهِ التَفْصِيْلُ في الأَعضاءِ التي تَجِبُ الاستقبالُ بها، فهو مِنْ شَرَائِطِ الصلاةِ، وإلا فهو مِنْ صِفَةِ الصلاةِ. وفي «الكبير» من لَمْ يَسْتَقْبِلْ بِأَطْرَافِ رِجْلَيْهِ القِبْلَةَ فَصَلاتُهُ بَاطِلَة. قلتُ: بل تكون مكروهة لا باطلة. 391- قوله: (مَنْ صَلَّى صلاتَنَا). وأُخِذَ مِنْ نحوِ هذه الأحاديث، لَقَبُ أَهْلِ القِبْلة، لأهلِ الإِسلام. وَوَجْهُهُ: أَنَّ هذه الأمور، أَمَارَاتٌ جَلِيَّةٌ يَحْصُلُ بِهَا التَّمايُزُ بين الإسلامِ وبَيْنَ سائرِ الأديان، فإنهم يَتَنزهون عن أَكْلِ ذَبِيحتِنَا، ولا يُصَلُّون صلاتنا، ولا يَسْتَقْبلون قبلتَنا، فصارت تلك كالشِّعارِ لأهل الإِسْلامِ، لا أَنه مَنْ تُوجد فيه تلك الأمور يُحكم عليه بالإِسلام، وإن أنكر سائر الدين ومرق منه مُرُوقَ السهم من الرَّمِّية. ولا أرَى أَنَّك شاكٌّ في تكفيرِ من فعل جميع ذلك، ثم أنكر بكون أصغرِ سورةٍ من القرآن قرآنًا، فكيف بِمَنِ ادّعى النبوة، وَأَهَانَ الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، وسبهم سبَّا يقشعر منه الجلود، وحَرَّفَ الدِّينَ كُلَّهُ، واشترى به ثمنًا قليلا، واستهزأ بالأحاديث، وأخبار الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ومعجزاتهم، إلى غير ذلك من موجباتِ الكُفْرِ التي لو تحققت واحدة منها في رجلٍ لكفت لتكفيره، فكيف بمن جمع هذه الأنواع أجمع؟ وأعني به: المرزا غلام أحمد الكادياني، الذي بغى وطغى، ثمَّ ذهب يَدَّعي النبوة، فَتَرَدَّدَ في تكفيره بعض من لم يمارس كتب الفقه، وَجَعَلَ يحتاط فيه، ولم يدرِ أنَّ التشجع في إكفار المسلم والتأخر في عدم إكفار الكافر سواء في الوزر، ولا تنس قول أبي بكر رضي الله عنه أوَّل خليفةٍ بعد رَسُوْلِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم لعمر رضي الله عنه: «أجبَّارٌ في الجاهلية، وخَوَّارٌ في الإِسْلام؟» فلم يتأخر عن قتال مانعي الزكاة، حتى شرح الله صدر عمر رضي الله عنه بأن الاحتياط أيضًا كان فيما عَمِلَ به أبو بكر رضي الله تعالى عنه. 391- قوله: (فلا تُخْفِرُوا الله)... إلخ. لأنَّ أفعالَ الله عز وجل مَسْتُورةٌ تحت الأَسْبَابِ في الدنيا، فلا يَظْهر خَفَرُهُ وذمته إلا على أيْدِيكُم، فلا تُخْفِرُوا أنتم ذِمَّة الله، فيلزم خَفَرَ الله ذَمَّتَهُ على أيديكم. 393- قوله: (وقال ابن أبي مريم أنا يحيى بن أيوب)... إلخ قلتُ: وبهذا الإِسناد عندنا روايته في السُّوَرِ الثلاث في رَكعات الوتر، فلمَّا عَجَزَ الواقعُ عَنْ جوابها غمزوا يحيى. قلتُ: وليُحْذَر عَنْ مِثْلِهِ، فإِنَّهُ يُوْجِبُ هَدْم كثيرٍ من ذخيرةِ الأحاديث، ومَنْ ذا الذي لم يَجْرحْ فيه أحد، فَسَدِّدُوا وقَارِبُوا.
واعلم أنَّ ابن بَطَّال غَلِطَ في تفسيرِ هذه الترجمة، ونَسَبَ إلى المصنف رحمه الله ما لم يُرِدْهُ، وهو أنَّه لا قِبْلَةَ عنده في هاتين الجهتين في الدنيا بأسرها، ثم فَرَّع عليه أنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلّم شرِّقوا أو غرِّبوا، عامٌّ عنده لكافةِ النَّاس، أهلِ المدينةِ وغيرِهم فيه سواء. وقال: تقدير هذه الترجمة هكذا: بابُ قِبْلة أهلِ المدينةِ وأهلِ الشَّامِ والمشْرِقِ والمغربِ ليس في التشريق ولا في التغريب. يعني أنَّهم عند الانحرافِ للتشريقِ والتَّغْرِيبِ ليسوا مواجهين للقِبلة ولا مُسْتَدْبِرِين لها، ولم يستثنِ منه إلا جزئيًا واحدًا، وهو ما قابلَ شرق مكةَ من البلاد التي تكونُ تحت الخطِّ المارِّ عليها من مشرِقها إلى مغربها، فتكون قِبلتهم فقط في هاتين الجمعتين، ولا يجوز لهم استعمال حديث أبي أيوب، ولا يصح لهم أن يُشَرِّقوا أو يُغَرِّبوا، وإنَّما يَنْحَرِفون إلى الجنوب والشمال، وأما سائرُهم فلهم التشريق والتغريب على حديثِ أبي أيوب مثلَ أهل المدينة. قلتُ: وهذا كله كلامٌ باطلٌ، ولم يحمله على ذلك إلا قوله: (ليس في المشرق)... إلخ، فَحَملَهُ على شرق العالم وغربه، وتعجبت من قوله، كيف ساغ له أخذه بهذا العموم، مع أنَّ المصنف رحمه الله تعالى لم يسمِّ مِنْ جانبه إلا ثلاثة: أهل المدينة، والشام، والشرق، ثم بَيَّنَ قبلتهم بقوله: (ليس في المشرق)... إلخ، ثم إنَّ قِبلة المصنف رحمه الله تعالى أيضًا في المغرب، فيلزم أنْ يكون هو أيضًا جاهلا عن قِبلته مدة عمره، على أنَّه يوجب أنْ لا تصحَّ عنده صلوات أهلِ الهند كلِّهم، لأنهم يُصلّون إلى المغرب، وليست فيه قِبلة عندَه لأَحَدٍ مِنَ العالمين، وكذا صلاة كل من كانت قبلتهم على سَمْتِهم، وتلك الآفة إنَّما حَدَثَتْ مِنْ حيث أنَّ الهيأةَ ليست مِنْ فَنِّهم، ولِكُلِّ فنٍ رجال، فإذا لم تتحقق عنده سَمْتُ القِبلة ولم يَدْرِ جِهَاتِ البلاد، تيسر له نفي القِبلة عن هاتين الجهتين مطلقًا، مع أنَّه بديهي البطلان، فكيف يليق أَنْ يعزوا ذلك إلى ذي شأن مثل المصنف رحمه الله تعالى. والحق عندي: أنَّ المصنفَ رحمه الله تعالى لم يَتَعَرَّضْ فيها إلى قِبْلَة كافةِ النَّاسِ، بل أَرَاد أَنْ يَذْكُرَ قِبْلَةَ هؤلاء الثلاثةِ فقط، وإنَّما خَصَّصَها بالذِكْرِ لأنَّ أَهْلَ المدينةِ وَرَد فيهم الحديث، ولذا جعلها عمودًا في الترجمة، وكذلك ذَكَر فيه الشام أيضًا، حيث يقولُ أبو أيوب: «فقدِمنا الشام»، ولاتصاله بأرض العرب، لأنَّ العرب مُحَاط بالبحرِ من جوانبه الثلاثة، ولا يتصل بالبر إلا مِنْ هذا الجانب، وهذا هو السِرُّ في عدم تعيين حدوده بعد، لأنَّ تقسيم البلادِ لا يكونُ إلا بالجبالِ أو البحار، ولا يكون باعتبار السَّلْطَنَة، فإِنَّ الملوكَ يَعْلُو بَعْضُهُم على بعض، وتكون الحرب سجالا، فلا تتعين حدودها، وليس هناك جبال أو بحارٌ ليقع التمييز بها، فيبقى فيه الاشتباه بعد، ولأن الشام مورد الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام والأَبدال، وفيه خصائص أخرى أيضًا، ثم أراد المصنِّف رحمه الله أَنْ يَسْحَبَ حُكْمَه على الجوانبِ والأطراف، فسمى الشَرْقَ وتَرَكَ الغرب، لأنَّ معظم المعمورة في تلك الجهةِ فقط، وأرادَ مِنَ الشرقِ شَرْقَ داخل العرب، لأن الإِسلام لم يخرج من بعد، بل شَرْقَ الحرمين الشريفين كالعراق ونجد، وهو عُرف الحديث، فلا تراد منه إلا هذه البلاد دون شَرْقِ العالم كُلِّه، وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلّم «شرِّقوا أو غرِّبوا» أيضًا يكون في أهلِ المدينة عنده، لا كما وَهِمَ ابنُ بَطَّال، بل أقول إنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى أَخَذَ ترجمته مِنْ حديثِ أبي أيوب وَبَنَى عليه، ولمَّا كان حديثُه خاصًا بأَهْلِ المدينةِ عِنْدَهُمْ جميعًا مع عُمُومِ أَلفاظِه، عَبَّر أيضًا على نهج تعبيره، فَهَلا حملوه على العموم أيضًا، فكما أَنَّ الحديثَ مع عُمُومِ ألفاظِهِ محمولٌ على قِبْلَةِ أهلِ المدينة، فبجنبه قولُ المصنِّف رحمه الله تعالى ليس في المشرق والمَغْرِب قِبْلَة، بل هي مأخوذةٌ منه فليحمله عليه أيضًا، وما النَّكِرُ فيه وما البُعْدُ؟ ثم إنَّ الحديث وإنْ وَرَدَ في الغائطِ والبولِ، لكنَّه لم يَكُنْ عنده فيه حديث غيره، فَأَخَذَ ترجمته منه، وهذا غيرُ نادرٍ في كتاب المصنِّف رحمه الله تعالى. وأما ما رواه الترمذي عن أبي هريرة «ما بين المشرق والمغرب قبلة». وحسَّنه وصححه، فمعناه كما ذكره ابن عمر رضي الله تعالى عنه: «إذا جَعَلْت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك، فما بينهما قِبلة، اسْتَقْبَلْتَ القِبلة»، وما ذكره ابن المُبَارَك أنه قِبلة لأهل المشرق، فمؤوَّل بأنَّه ليس المرادُ من أهلِ الشرق كلَّهم، بل أهل بُخارى وسَمَرْقَنْدَ وبَلْخ، لأنَّ بلادَهم في مَشْرِقِ الصيف، وقِبْلَتَهُمْ بين مَغْرِبِ الصيف ومشرق الشتاء، فحينئذٍ صح قوله: (ما بين المشرق) أي: مشرق الشتاء (والمغرب) أي: مغرب الصيف قبلة، وإلا فظاهره غيرُ مستقيم.
395- قوله: (وقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلّم أسوة حسنة) ومرادُهُ أنَّه ليس عندي صريح النهي، فدعوا الاحتمالات، واقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلّم وفيه تعريضٌ إلى ابن عباس رضي الله عنهما، ومذهبه: أنَّ المُفْرِدَ بالحجِّ إذا لم يَكُنْ عنده هديٌ يَنْفَسِخ حَجُّهُ بمجرَّدِ رؤيتهِ البيتَ، ويصيرُ عمرة فلو وقف بعرفةَ ولم يَدْخُل مكةَ، ولم يَنْظُر إلى البيت، صح حجه، فإذا طاف لِعُمْرَتِهِ جاز أَنْ يَقْرَبَ امرأتَهُ قَبْلَ سعيه لها خلافًا للجمهور في المسألتين، فأجاب ابنُ عمر رضي الله عنه إشارةً، وجابرٌ رضي الله عنه صراحةً، وقال: لا يَقْرَبنَّها حتى يَطُوف بين الصفا والمَرُوَة، يعني لا يجوز له التَّحَلُّل قَبْلَهُ، ولا يجوز الجماع إلا بعده. 397- قوله: (دخل الكعبة) وهذا في فتح مكة، ولم يَعْتَمر النبي صلى الله عليه وسلّم في هذه المرة، ودَخَلَها بدون إحرام، وهذا أيضًا من ماصدقات قوله: «وأحلَّ لي ساعة من النهار» عندنا. 397- قوله: (فسألتُ بلالا رضي الله عنه) والمشهور عن ابنِ عمرَ رضي الله عنه أنَّه قال: «نسيت بلالا أَنْ أسألَهُ كم صلى». قال الحافظ رحمه الله تعالى: والاعتماد على ما رُوِيَ عنه في المشهور، ويُحْتَمَل أنه ذَكَرَ رَكَعتين ههنا أخذًا بالمتيقن، لا أنَّه ذكر بلالا رضي الله عنه. ثم إنَّ بلالا رضي الله عنه يُثبت الصلاةَ ويَنْفي التَّكْبِير، على عكس ابنِ عباس رضي الله عنهما. وجمعهما المصنف رحمه الله تعالى فَأَثْبَت الصلاةَ على رواية بلال رضي الله عنه، والتكبيرَ على حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لأنَّ قولَ المُثْبِت أولى. وتتبعت الفقه للتكبير في البيتِ، فلم أرَ أحدًا منهم صَرَّحَ به، مع ورودِهِ في الأحاديث. قلتُ: وقَدْ كَانَ يَخْطُر بالبالِ وجه آخر في دفع التعارض بين حديثِ بلالٍ رضي الله عنه، وابن عباس رضي الله عنهما بأن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلّم دخلها في حَجَّةِ الوداع أيضًا، فيُحْمَل النفي والإِثبات على تَعَدُّد الواقعتين، إلا أنَّ المُحَدِّثين ذهبوا إلى الترجيحِ دون التَّطْبيق. وفي «تاريخ الأَزْرَقي»: أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن الصلاةِ في البيت فقال: «فيه صلاة، إلا أنَّها ليست ذات ركوعٍ وسجودٍ، بل هي تكبيرٌ، وتسبيحٌ، واستغفارٌ من غيرِ قراءةٍ، كصلاةِ الجَنَازة». ففيه دليل على نفي الفاتحة في صلاةِ الجنازَةِ عند ابنِ عباس رضي الله عنهما على خلافِ ما فَهِمَه الشافعية رحمهم الله تعالى، وقد كان يَتَبَادرُ إلى ذهني أنَّ التَّكْبِيرَ في البيت لعله يكونُ برفع الأيدي كالتحريمةِ كما يقوله الشافعي رحمه الله تعالى عند رؤية البيت. ونفاه الطحاوي، وكما قاله الحنفية رحمهم الله تعالى عند استلامِ الحَجَر. ثم تتبعتُ ما كان ابنُ عباس رضي الله عنه يَفْعَلُ في صلاةِ الجنازَةِ فَظَهر أنَّه لم يَكُن يَرْفَعُ فيها إلا عِنْدَ التحريمةِ، وحينئذٍ أَمْكَنَ أَنْ لا يكونَ الرَّفْعُ عند التكبيرِ داخلَ البيت أيضًا، ولم أجد عليه روايةً صريحة، وأما مشايخُ بَلْخ منَّا، فذهبوا إلى الرفعِ عند التكبيراتِ في صلاةِ الجَنَازَةِ. وسَنَحَ لي بالرفع عند الاسْتِلام أَنَّ الرَّفْعَ في الصلوات لاسْتِقْبَالِ البيت. 398- قوله: (هذه القبلة) إشارة إلى المجموع. وتَمَسَّكَ به المالكيةُ على عَدَمِ جوازِ الفَرِيضةِ داخلَ البيتِ لإِمكان استقبال المجموع. ولنا فيه مجال وسيع.
|